فصل: ذكر استيلاء جلال الدولة على البصرة وخروجها عن طاعته:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر خلافة القائم بأمر الله:

لما مات القادر بالله جلس ابنه القائم بأمر الله، وأبو جعفر عبد الله، وجددت له البيعة، وكان أبوه قد بايع له بولاية العهد سنة إحدى عشرين، كما ذكرناه، واستقرت الخلافة له، وأول من بايعه الشريف أبو القاسم المرتضى، وأنشده:
فإما مضى جبل وانقضى ** فمنك لنا جبل قد رسا

وإما فجعنا ببدر التمام، ** فقد بقيت منه شمس الضحى

لنا حزن في محل السرور، ** وكم ضحك في خلال البكا

فيا صارم أغمدته يد، ** لنا بعدك الصارم المنتضى

وهي أكثر من هذا. وأرسل القائم بأمر الله قاضي القضاة أبا الحسن الماوردي إلى الملك أبي كاليجار ليأخذ عليه البيعة، ويخطب له في بلاده، فأجاب وبايع، وخطب له في بلاده، وأرسل إليه هدايا جليلة وأموالاً كثيرة.

.ذكر الفتنة ببغداد:

في هذه السنة، في ربيع الأول، تجددت الفتنة ببغداد بين السنة والشيعة.
وكان سبب ذلك أن الملقب بالمذكور أظهر العزم على الغزاة، واستأذن الخليفة في ذلك، فأذن له، وكتب له منشور من دار الخلافة، وأعطى علماً، فاجتمع له لفيف كثير، فسار واجتاز بباب الشعير، وطاق الحراني، وبين يديه الرجال بالسلاح، فصاحوا بذكر أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، وقالوا: هذا يوم معاوية، فنافرهم أهل الكرخ ورموهم، وثارت الفتنة، ونهبت دور اليهود لأنهم قيل عنهم إنهم أعانوا أهل الكرخ.
فلما كان الغد اجتمع السنة من الجانبين، ومعهم كثير من الأتراك، وقصدوا الكرخ، فأحرقوا وهدموا الأسواق، وأشرف أهل الكرخ على خطة عظيمة. وأنكر الخليفة ذلك إنكاراً شديداً، ونسب إليهم تخريق علامته التي مع الغزاة، فركب الوزير، فوقعت في صدره آجرة، فسقطت عمامته،وقتل من أهل الكرخ جماعة، وأحرق وخرب في هذه الفتنة سوق العروس، وسوق الصفارين، وسوق الأنماط، وسوق الدقاقين، وغيرها، واشتد الأمر، فقتل العامة الكلالكي، وكان ينظر في المعونة، وأحرقوه.
ووقع القتال في أصقاع البلد من جانبيه، وقتل أهل الكرخ، ونهر طابق، والقلائين، وباب البصرة، وفي الجانب الشرقي أهل سوق الثلاثاء، وسوق يحيى، وباب الطاق، والأساكفة، والرهادرة، ودرب سليمان، فقطع الجسر ليفرق بين الفريقين، ودخل العيارون البلد، وكثر الاستقفاء بها والعملات ليلاً ونهاراً. وأظهر الجند كراهة الملك جلال الدولة، وأرادوا قطع خطبته، ففرق فيهم مالاً وحلف لهم فسكنوا، ثم عاودوا الشكوى إلى الخليفة منه، وطلبوا أن يأمر بقطع خطبته، فلم يجبهم إلى ذلك، فامتنع حينئذ جلال الدولة من الجلوس، وضربه النوبة أوقات الصلوات، وانصرف الطبالون لانقطاع الجاري لهم، ودامت هذه الحال إلى عيد الفطر، فلم يضرب بوق، ولا طبل، ولا أظهرت الزينة، وزاد الاختلاط.
ثم حدث في شوال فتنة بين أصحاب الأكيسة وأصحاب الخلعان، وهما شيعة، وزاد الشر، ودام إلى ذي الحجة، فنودي في الكرخ بإخراج العيارين، فخرجوا، واعترض أهل باب البصرة قوماً من قم أرادوا زيارة مشهد علي والحسين، عليهما السلام، فقتلوا منهم ثلاثة نفر، وامتنعت زيارة مشهد موسى ابن جعفر.

.ذكر ملك الروم قلعة أفامية:

في هذه السنة ملك الروم قلعة أفامية بالشام.
وسبب ملكها أن الظاهر خليفة مصر سير إلى الشام الدزبري، وزيره، فملكه، وقصد حسان بن المفرج الطائي، فألح في طلبه، فهرب منه، ودخل بلد الروم، ولبس خلعة ملكهم، وخرج من عنده وعلى رأسه علم فيه صليب، ومعه عسكر كثير، فسار إلى أفامية فكبسها، وغنم ما فيها، وسبى أهلها، وأسرهم، وسير الدزبري إلى البلاد يستنفر الناس للغزو.

.ذكر الوحشة بين بارسطغان وجلال الدولة:

اجتمع أصاغر الغلمان هذه السنة إلى جلال الدولة، وقالوا له: قد هلكنا فقراً وجوعاً، وقد استبد القواد بالدولة والأموال عليك وعلينا، وهذا بارسطغان ويلدرك قد أفقرانا وأفقراك أيضاً.
فلما بلغهما ذلك امتنعا من الركوب إلى جلال الدولة، واستوحشا، وأرسل إليهما الغلمان يطالبونهما بمعلومهم، فاعتذرا بضيق أيديهما عن ذلك، وسارا إلى المدائن. فندم الأتراك على ذلك، وأرسل إليهما جلال الدولة إلى أن نهبوا من داره فرشاً، وآلات، ودواب، وغير ذلك، فركب وقت الهاجرة إلى دار الخلافة، ومعه نفر قليل من الركابية والغلمان وجمع كثير من العامة وهو سكران، فانزعج الخليفة من حضوره، فلما علم الحال أرسل إليه يأمره بالعود إلى داره، ويطيب قلبه، فقبل قربوس سرجه، ومسح حائط الدار بيده وأمرها على وجهه، وعاد إلى داره والعامة معه.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة قبل قاضي القضاة أبو عبيد الله بن ماكولا شهادة أبي الفضل محمد بن عبد العزيز بن الهادي، والقاضي أبي الطيب الطبري، وأبي الحسين ابن المهتدي، وشهد عنده أبو القاسم بن بشران، وكان قد ترك الشهادة قبل ذلك.
وفيها فوض مسعود بن محمود بن سبكتكين إمارة الري، وهمذان، والجبال إلى تاش فراش، وكتب له إلى عامل نيسابور بإنفاق الأموال على حشمه، ففعل ذلك وسار إلى عمله، وأساء السيرة فيه.
وفيها، في رجب، أخرج الملك جلال الدولة دوابه من الإصطبل، وهي خمس عشرة دابة، وسيبها في المديان بغير سائس، ولا حافظ، ولا علف، فعل ذلك لسببين: أحدهما عدم العلف، والثاني أن الأتراك كانوا يلتمسون دوابه، ويطلبونها كثيراً، فضجر منهم، فأخرجها وقال: هذه دوابي منها: خمس لمركوبي، والباقي لأصحابي، ثم صرف حواشيه، وفراشيه، وأتباعه، وأغلق باب داره لانقطاع الجاري له، فثارت لذلك فتنة بين العامة والجند، وعظم الأمر، وظهر العيارون.
وفيها عزل عميد الدولة وزير جلال الدولة، ووزر بعده أبو الفتح محمد ابن الفضل بن أردشير، فبقي أياماً، ولم يستقم أمره، فعزل، ووزر بعده أبو إسحاق إبراهيم بن أبي الحسين، وهو ابن أخي أبي الحسين السهلي، وزير مأمون صاحب خوارزم، فبقي في الوزارة خمسة وخمسين يوماً وهرب.
وفيها توفي عبد الوهاب بن علي بن نصر أبو نصر الفقيه المالكي بمصر، وكان ببغداد، ففارقها إلى مصر عن ضائقة، فأغناه المغاربة. ثم دخلت:

.سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة:

.ذكر وثوب الأجناد بجلال الدولة وإخراجه من بغداد:

في هذه السنة، في ربيع الأول، تجددت الفتنة بين جلال الدولة وبين الأتراك، فأغلق بابه، فجاءت الأتراك ونهبوا داره، وسلبوا الكتاب وأرباب الديوان ثيابهم، وطلبوا الوزير أبا إسحاق السهلي، فهرب إلى حلة كمال الدولة غريب بن محمد، وخرج جلال الدولة إلى عكبرا في شهر ربيع الآخر، وخطب الأتراك ببغداد للملك أبي كاليجار، وأرسلوا إليه يطلبونه وهو بالأهواز، فمنعه العادل بن مافنة عن الإصعاد إلى أن يحضر بعض قوادهم.
فلما رأوا امتناعه من الوصول إليهم، أعادوا خطبة جلال الدولة، وساروا إليه، وسألوه العود إلى بغداد، واعتذروا، فعاد إليها بعد ثلاثة وأربعين يوماً، ووزر له أبو القاسم بن ماكولا، ثم عزل، ووزر بعده عميد الدولة أبو سعد ابن عبد الرحيم، فبقي وزيراً أياماً ثم استتر.
وسبب ذلك أن جلال الدولة تقدم إليه بالقبض على أبي المعمر إبراهيم بن الحسين البسامي، طمعاً في ماله، فقبض عليه، وجعله في داره، فثار الأتراك وأرادوا منعه، وقصدوا دار الوزير، وأخذوه وضربوه، وأخرجوه من داره حافياً، ومزقوا ثيابه، وأخذوا عمامته وقطعوها، وأخذوا خواتيمه من يده، فدميت أصابعه، وكان جلال الدولة في الحمام، فخرج مرتاعاً، فركب وظهر لينظر ما الخبر، فأكب الوزير يقبل الأرض، ويذكر ما فعل به، فقال جلال الدولة: أنا ابن بهاء الدولة، وقد فعل بي أكثر من هذا، ثم أخذ من البسامي ألف دينار وأطلقه، واختفى الوزير.

.ذكر انهزام علاء الدولة بن كاكويه من عسكر مسعود بن محمود بن سبكتكين:

قد ذكرنا انهزام علاء الدولة أبي جعفر من الري ومسيره عنها، فلما وصل إلى قلعة فردجان أقام بها لتندمل جراحه، ومعه فرهاذ بن مرداويج، وكان قد جاءه مدداً له، وتوجهوا منها إلى بروجرد، فسير تاش فراش مقدم عسكر خراسان إلى علاء الدولة، واستعمل عليهم علي بن عمران، فسار يقص أثر علاء الدولة، فلما قارب بروجرد صعد فرهاذ إلى قلعة سليموه، ومضى أبو جعفر إلى سابور خواست، ونزل عند الأكراد الجوزقان.
وملك عسكر خراسان بروجرد، وراسل فرهاذ الأكراد الذي مع علي ابن عمران، واستمالهم، فصاروا معه، وأرادوا أن يفتكوا بعلي، وبلغه الخبر فركب ليلاً في خاصته وسار نحو همذان، ونزل في الطريق بقرية تعرف بكسب، وهي منيعة، فاستراح فيها، فلحقه فرهاذ وعسكره والأكراد الذين صاروا معه وحصروه في القرية، فاستسلم وأيقن بالهلاك، فأرسل الله تعالى ذلك اليوم مطراً وثلجاً، فلم يمكنهم المقام عليه لأنهم كانوا جريدة بغير خيام ولا آلة شتاء، فرحلوا عنه، وراسل علي بن عمران الأمير تاش فراش يستنجده ويطلب العسكر إلى همذان، ثم اجتمع فرهاذ وعلاء الدولة ببروجرد، واتفقا على قصد همذان، وسير علاء الدولة إلى أصبهان، وبها ابن أخيه، يطلبه، وأمره بإحضار السلاح والمال، ففعل وسار. فبلغ خبره علي بن عمران، فسار إليه من همذان جريدة، فكبسه بجرباذقان، وأسره واسر كثيراً من عسكره، وقتل منهم، وغنم ما معه من سلاح ومال غير ذلك.
ولما سار علي عن همذان دخلها علاء الدولة، وملكها ظناً منه أن علياً سار منهزماً، وسار علاء الدولة من همذان إلى كرج، فأتاه خبر ابن أخيه ففت في عضده.
وكان علي بن عمران قد سار بعد الوقعة إلى أصبهان طامعاً في الاستيلاء عليها، وعلى مال علاء الدولة وأهله، فتعذر عليه ذلك، ومنعه أهلها والعسكر الذي فيها، فعاد عنها، فلقيه علاء الدولة وفرهاذ، فاقتتلوا، فانهزم منهما، واخذا ما معه من الأسرى، إلا أبا منصور ابن أخي علاء الدولة، فإنه كان قد سيره إلى تاش فراش، وسار علي من المعركة منهزماً نحو تاش فراش، فلقيه بكرج فعاتبه على تأخره عنه، واتفقا على المسير إلى علاء الدولة وفرهاذ، وكان قد نزل بجبل عند بروجرد متحصناً فيه، فافترق تاش وعلي وقصداه من جهتين: إحداهما من خلفه، والأخرى من الطريق المستقيم، فلم يشعر إلا وقد خالطه العسكر، فانهزم علاء الدولة وفرهاذ، وقتل كثير من رجالهما، فمضى علاء الدولة إلى أصبهان، وصعد فرهاذ إلى قلعة سليموه فتحصن بها.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة توفي قدرخان ملك الترك بمار وراء النهر.
وفيها ورد أحمد بن محمد المنكدري الفقيه الشافعي رسولاً من مسعود ابن سبكتكين إلى القائم بأمر الله معزياً له بالقادر بالله.
وفيها نقل تابوت القادر بالله إلى المقبرة بالرصافة، وشهده الخلق العظيم، وحجاج خراسان، وكان يوماً مشهوداً.
وفيها كان بالبلاد غلاء شديد، واستسقى الناس فلم يسقوا، وتبعه وباء عظيم، وكان عاماً في جميع البلاد بالعراق، والموصل، والشام، وبلد الجبل، وخراسان، وغزنة، والهند، وغير ذلك، وكثر الموت، فدفن في أصبهان، في عدة أيام، أربعون ألف ميت، وكثر الجدري في الناس، فأحصي بالموصل أنه مات به أربعة آلاف صبي، ولم تخل دار من مصيبة لعموم المصائب، وكثرة الموت، وممن جدر القائم بأمر الله وسلم.
وفيها جمع نائب نصر الدولة بن مروان بالجزيرة جمعاً ينيف على عشرة آلاف رجل، وغزا من يقاربه من الأرمن، وأوقع بهم، وأثخن فيهم، وغنم وسبى كثيراً، وعاد ظافراً منصوراً.
وفيها كان بن أهل تونس من إفريقية خلف، فسار المعز بن باديس إليهم بنفسه، فأصلح بينهم، وسكن الفتنة وعاد.
وفيها اجتمع ناس كثير من الشيعة بإفريقية، وساروا إلى أعمال نفطة، فاستولوا على بلد منها وسكنوه، فجرد إليهم المعز عسكراً، فدخلوا البلاد وحاربوا الشيعة وقتلوهم أجمعين.
وفيها خرجت العرب على حاج البصرة ونهبوهم، وحج الناس من سائر البلاد إلا من العراق.
وفيها توفي أبو الحسن بن رضوان المصري، النحوي، في رجب.
وفيها قتل الملك أبو كاليجار صندلاً الخصي، وكان قد استولى على المملكة، وليس لأبي كاليجار معه غير الاسم.
وفيها توفي علي بن أحمد بن الحسن بن محمد بن نعيم أبو الحسن النعيمي البصري، حدث عن جماعة، وكان حافظاً، شاعراً، فقيهاً على مذهب الشافعي. ثم دخلت:

.سنة أربع وعشرين وأربعمائة:

.ذكر عود مسعود إلى غزنة والفتن بالري وبلد الجبل:

في هذه السنة، في رجب، عاد الملك مسعود بن سبكتكين من نيسابور إلى غزنة وبلاد الهند.
وكان سبب ذلك أنه لما كان قد استقر له الملك بعد أبيه أقر بما كان قد فتحه أبوه من الهند نائباً يسمى أحمد ينالتكين، وقد كان أبوه محمد استنابه بها ثقة بجلده ونهضته، فرست قدمه فيها، وظهرت كفايته.
ثم إن مسعوداً بعد فراغه من تقرير قواعد الملك، والقبض على عمه يوسف والمخالفين له، سار إلى خراسان عازماً على قصد العراق، فلما أبعد عصى ذلك النائب بالهند، فاضطر مسعود إلى العود، فأرسل إلى علاء الدولة بن كاكويه وأمره على أصبهان بقرار يؤديه كل سنة، وكان علاء الدولة قد أرسل يطلب ذلك، فأجابه إليه، وأقر ابن قابوس بن وشمكير على جرجان وطبرستان على مال يؤديه إليه، وسير أبا سهل الحمدوني إلى الري للنظر في أمور هذه البلاد الجبلية، والقيام بحفظها، وعاد إلى الهند، فأصلح الفاسد، وأعاد المخالف إلى طاعته، وفتح قلعة حصينة تسمى سرستي، على ما نذكره، وقد كان أبوه حصرها غير مرة فلم يتهيأ له فتحها.
ولما سار أبو سهل إلى الري أحسن الناس، وأظهر العدل، فأزال الأقساط والمصادرات، وكان تاش فراش قد ملأ البلاد ظلماً وجوراً، حتى تمنى الناس الخلاص منهم ومن دولتهم، وخربت البلاد، وتفرق أهلها، فلما ولي الحمدوني، وأحسن، وعدل، عادت البلاد فعمرت، والرعية أمنت، وكان الإرجاف شديداً بالعراق، لما كان الملك مسعود بنيسابور، فلما عاد سكن الناس واطمأنوا.

.ذكر ظفر مسعود بصاحب ساوة وقتله:

فيها قبض عسكر السلطان مسعود بن محمود على شهريوش بن ولكين، فأمر به مسعود فقتل وصلب على سور ساوة.
وكان سبب ذلك أن شهريوش كان صاحب ساوة وقم وتلك النواحي، فلما اشتغل مسعود بأخيه محمد بعد موت والده جمع شهريوش جمعاً وسار إلى الري محاصراً لها، فلم يتم ما أراده، وجاءت العساكر فعاد عنها.
ثم في هذه السنة اعترض الحجاج الواردين من خراسان، وعمهم أذاه، وأخذ منهم ما لم تجر عادة، وأساء إليهم، وبلغ ذلك إلى مسعود، فتقدم إلى تاش فراش، وإلى أبي الطيب طاهر بن عبد الله خليفته معه، يطلب شهريوش وقصده أين كان، واستنفاد الوسع في قتاله، فسارت العساكر في أثره، فاحتمى بقلعة تقارب قم تسمى فستق، وهي حصينة، عالية المكان، وثيقة البنيان، فأحاطوا به وأخذوه، وكتبوا إلى مسعود في أمره، فأمرهم بصلبه على سور ساوة.

.ذكر استيلاء جلال الدولة على البصرة وخروجها عن طاعته:

في هذه السنة سارت عساكر جلال الدولة مع ولده الملك العزيز فدخلوا البصرة في جمادى الأولى.
وكان سبب ذلك أن بختيار متولي البصرة تولى فقام بعد ظهير الدين أبو القاسم خال ولده لجلد كان فيه، وكفاية، وهو في طاعة الملك أبي كاليجار، ودام كذلك، فقيل لأبي كاليجار: إن أبا القاسم ليس لك من طاعته غير الاسم، ولو رمت عزله لتعذر عليك.
وبلغ ذلك ابا القاسم، فاستعد للامتناع، وأرسل أبو كاليجار إليه ليعزله فامتنع، وأظهر طاعة جلال الدولة، وخطب له، وأرسل إلى ابنه، وهو بواسط، يطلبه، فانحدر إليه في عساكر أبيه التي كانت معه بواسط، ودخلوا البصرة مع أبي القاسم إلى أن دخلت سنة خمس وعشرين وليس له معه أمر، والحكم إلى أبي القاسم.
ثم إنه أراد القبض على بعض الديلم، فهرب ودخل دار الملك العزيز مستجيراً، فاجتمع الديلم إليه، وشكوا من أبي القاسم، فصادفت شكواهم صدراً موغراً حنقاً عليه لسوء صحبته، فأجابهم إلى ما أرادوه من إخراجه عن البصرة، واجتمعوا، وعلم أبو القاسم بذلك، فامتنع بالأبلة، وجمع أصحابه، وجرى بين الفريقين حروب كثيرة أجلت عن خروج العزيز عن البصرة وعوده إلى واسط، وعود أبي القاسم إلى طاعة أبي كاليجار.

.ذكر إخراج جلال الدولة من دار المملكة وإعادته إليها:

في هذه السنة، في رمضان، شغب الجند على جلال الدولة، وقبضوا عليه، ثم أخرجوه من داره، ثم سألوه ليعود إليها فعاد.
وسبب ذلك أنه استقدم الوزير أبا القاسم من غير أن يعلموا، فلما قدم ظنوا أنه إنما ورد للتعرض إلى أموالهم ونعمهم، فاستوحشوا واجتمعوا إلى داره وهجموا عليه، وأخرجوه إلى مسجد هناك، فوكلوا به فيه، ثم إنهم أسمعوه ما يكره، ونهبوا بعض ما في داره، فلما وكلوا به جاء بعض القواد في جماعة من الجند، ومن انضاف إليه من العامة والعيارين، فأخرجه من المسجد وأعاده إلى داره، فنقل جلال الدولة ولده وحرمه وما بقي له إلى الجانب الغربي، وعبر هو في الليل إلى الكرخ، فلقيه أهل الكرخ بالدعاء، فنزل بدار المرتضى، وعبر الوزير أبو القاسم معه.
ثم إن الجند اختلفوا، فقال بعضهم: نخرجه من بلادنا ونملك غيره. وقال بعضهم: ليس من بني بويه غير وغير أبي كاليجار، وذلك قد عاد إلى بلاده، ولا بد من مداراة هذا. فأرسلوا إليه يقولون له: نريد أن تنحدر عنا إلى واسط، وأنت ملكنا، وتترك عندنا بعض أولادك الأصاغر. فأجابهم إلى ذلك، وأرسل سراً إلى الغلمان الأصاغر فاستمالهم، إلى كل واحد من الأكابر، وقال: إنما أثق بك، وأسكن إليك، واستمالهم أيضاً، فعبروا إليه، وقبلوا الأرض بين يديه، وسألوه العود إلى دار الملك، فعاد، وحلف لهم على إخلاص النية، والإحسان إليهم، وحلفوا له على المناصحة، واستقر في داره.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة توفي الوزير أحمد بن الحسن الميمندي، وزير مسعود بن سبكتكين، ووزر بعده أبو نصر أحمد بن علي بن عبد الصمد، وكان وزير هارون التونتاش، صاحب خوارزم، ووزر بعده لهارون ابنه عبد الجبار.
وفيها ثار العيارون ببغداد، وأخذوا أموال الناس ظاهراً، وعظم الأمر على أهل البلد، وطمع المفسدون إلى حد أن بعض القواد الكبار أخذ أربعة من العيارين، فجاء عقيدهم وأخذ من اصحاب القائد أربعة، وحضر باب داره ودق عليه الباب، فكلمه من داخل، فقال العقيد: قد أخذت من أصحابك أربعة، فإن أطلقت من عندك أطلقت من عندي، وإلا قتلتهم، وأحرقت دارك! فأطلقهم القائد.
وفيها تأخر الحاج من خراسان.
وفيها خرج حجاج البصرة بخفير، فغدر بهم ونهبهم.وفيها، في جمادى الأولى، توفي أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن البيضاوي، الفقيه الشافعي، عن نيف وثمانين سنة.
وفيها، في شوال، توفي أبو الحسن بن السماك القاضي عن خمس وتسعين سنة. ثم دخلت:

.سنة خمس وعشرين وأربعمائة:

.ذكر فتح قلعة سرستي وغيرها من بلد الهند:

في هذه السنة فتح السلطان مسعود بن محمود بن سبكتكين قلعة سرستي وما جاورها من بلد الهند.
وكان سبب ذلك ما ذكرناه من عصيان نائبه بالهند أحمد ينالتكين عليه ومسيره إليه فلما عاد أحمد إلى طاعته أقام بتلك البلاد طويلاً حتى أمنت واستقرت، وقصد قلعة سرستي، وهي من أمنع حصون الهند وأحصنها، فحصرها، وقد كان أبوه حصرها غير مرة، فلم يتهيأ له فتحها، فلما حصرها مسعود راسله صاحبها، وبذل له مالاً على الصلح، فأجابه إلى ذلك.
وكان فيها قوم من التجار المسلمين، فعزم صاحبها على أخذ أموالهم وحملها إلى مسعود من جملة القرار عليه، فكتب التجار رقعة في نشابة ورموا إليه يعرفونه فيها ضعف الهنود بها، وأنه إن صابرهم ملكهم فرجع عن الصلح إلى الحرب، وطم خندقها بالشجر وقصب السكر وغيره، وفتح الله عليه، وقتل كل من فيها، سبى ذراريهم، وأخذ ما جاورها من البلاد، وكان عازماً على طول المقام والجهاد، فأتاه من خراسان خبر الغز، فعاد، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

.ذكر حصر قلعة بالهند أيضاً:

لما ملك مسعود قلعة سرستي رحل عنها إلى قلعة نغسى، فوصل إليها عاشر صفر، وحصرها فرآها عالية لا ترام، يرتد البصر دونها وهو حسير، إلا أنه أقام عليها يحصرها، فخرجت عجوز ساحرة، فتكلمت باللسان الهندي طويلاً، وأخذت مكنسة فبلتها بالماء ورشته منها إلى جهة عسكر المسلمين، فمرض وأصبح ولا يقدر أن يرفع رأسه، وضعفت قوته ضعفاً شديداً، فرحل عن القلعة لشدة المرض، فحين فارقها زال ما كان به، وأقبلت الصحة والعافية إليه، وسار نحو غزنة.

.ذكر الفتنة بنيسابور:

لما اشتد أمر الأتراك بخراسان، على ما نذكره، تجمع كثير من المفسدين وأهل العيث والشر، وكان أول من أثار الشر أهل أبيورد وطوس، واجتمع معهم خلق كثير، وساروا إلى نيسابور لينهبوها، وكان الوالي عليها قد سار عنها إلى الملك مسعود، فخافهم خوفاً عظيماً، وأيقنوا بالهلاك.
فبينما هم يترقبون البوار والاستئصال، وذهاب الأنفس والأموال، إذ وصل إليهم أمير كرمان في ثلاثمائة فارس، قدم متوجهاً إلى مسعود أيضاً، فاستغاث به المسلمون، وسألوه أن يقيم عندهم ليكف عنهم الأذى، فأقام عليهم، وقاتل معهم، وعظم الأمر، واشتدت الحرب، وكان الظفر له ولأهل نيسابور، فانهزم أهل طوس وأبيورد ومن تبعهم، وأخذتهم السيوف من كل جانب، وعمل بهم أمير كرمان أعمالاً عظيمة، وأثخن فيهم، وأسر كثيراً منهم، وصلبهم على الأشجار وفي الطرق، فقيل إنه عدم من أهل طوس عشرون ألف رجل.
ثم إن أمير كرمان أحضر زعماء قرى طوس، وأخذ أولادهم وإخوانهم وغيرهم من أهليهم رهائن، فأودعهم السجون، وقال: إن اعترض منكم واحد إلى أهل نيسابور أو غيرهم، أو قطع طريقاً، فأولادكم، وإخوانكم، ورهائنكم مأخوذون بجناياتكم. فسكن الناس، وفرج الله عن أهل نيسابور بما لم يكن في حسابهم.